بنعبد القادر: تغيير جذري ينتظر منظومة الوظيفة العمومية بالمغرب
نص الحوار:
استأثر موضوع الإدارة العمومية بحيز كبير في الخطاب الملكي لعيد العرش. أنتم كوزير مسؤول على القطاع ما هو تعليقكم عليه؟
أولا، لا بد من الإشارة إلى أنه إذا كان خطاب الملك يوم 14 أكتوبر، بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الحالية، كرس مضامينه وتوجيهاته لإشكالية الإدارة العمومية في المغرب وعلاقتها بالمواطن ورهانات التنموية في بلادنا، فخطاب عيد العرش وضع تشخيصاً دقيقاً للاختلالات التي تُعاني منها الإدارة، ورسم آفاق إصلاح هذه المنظومة. وهنا أشير إلى أن البرنامج الحكومي الذي قدمه رئيس الحكومة أمام البرلمان حرص على ترجمة التشخيص الذي قام به جلالة الملك في خطاب افتتاح الدورة؛ إذ وضع ضمن خمس أولوياته تعزيز قيم النزاهة وإصلاح الإدارة ومراجعة نظام الوظيفة العمومية.
اليوم الخميس ستكمل الحكومة حصيلة مائة يوم من عمرها، لكن يُمكننا القول بأن حصيلة هذه الوزارة في تنفيذ مضامين الخطاب الملكي ليوم 14 أكتوبر هي مشجعة؛ لأنها أخرجت مرسومين أساسيين يهمان إشكالية الإدارة، خاصة في ما يتعلق بتدبير ومعالجة شكايات المواطنين. وهناك مشاريع أخرى ستُحال على الحكومة تتعلق بميثاق المراسيم العمومية وتجويد الخدمة العمومية وتبسيط المساطر الإدارية. إلا أنه بعد هذا الخطاب الأخير، عاد جلالة الملك إلى موضوع الإدارة ودق ناقوس الخطر للتوجه إلى جذرية أعطاب الإدارة، وليس الاكتفاء بالحلول الترقيعية.
من أين ستبدؤون إذن، خصوصا أن منظومة الوظيفة العمومية تعود إلى سنة 1958 ومن الصعب تغييرها لأنها لم تساير التطور الحاصل في القطاع؟
خطاب الملك محمد السادس أشار إلى بعض الاختلالات ذات الطبيعة النسقية في الإدارة العمومية، وهذه الاختلالات مرتبطة بالاختيارات الاجتماعية التي نهجها المغرب منذ بداية الستينات؛ نموذج الإدارة والوظيفة العمومية هو نموذج من صميم عمل جهاز الدولة المكلف بإعداد وتخطيط وتنفيذ السياسات العمومية، ولكن هذا النموذج وصل إلى حالة من العياء، وبالمقاربة الاجتماعية التي ارتكز عليها استنفد نفسه.
الخطاب الملكي الآن جاء ليعزز المقاربة التي اعتمدتها الحكومة الحالية؛ بحيث إنه في البداية تبين لنا بعدما اضطلعنا على الدراسات والتقارير والأعمال المنجزة في هذا الصدد، أن الأمر أصبح يقتضي حلاً شاملاً وليس المزيد من الترقيعات في منظومة لم تعد تتلاءم مع متطلبات الشعب المغربي، ولا مع الرهانات والتحديات التنموية لبلادنا. نحن اليوم لدينا تصور متكامل يحتاج فقط إلى التدقيق في بعض الجوانب التي سنباشر حولها، في غضون الأيام المقبلة، حوارا مؤسساتياً مع مختلف الفاعلين، خصوصا بعد الخطاب الذي أكد أن المغرب الذي يتطور يحتاج إلى إدارة جديدة ووظيفة عمومية أخرى بفلسفة جديدة.
ما هي الخطوط العريضة لهذه التغييرات الجذرية المرتقبة في نظام الوظيفة العمومية؟
لا بد من الإشارة إلى أن المغرب أقبل على مراجعات قاسية وشاملة وشجاعة طالت أسمى نص قانوني في البلاد هو الدستور، والآن تتجسد في التطلع إلى نموذج تنموي جديد؛ وهو ما يسمح لنا بأن نذهب بخطوات ثابتة إلى مراجعة نظام الوظيفة العمومية. وسيتجلى هذا التغيير المرتقب في قلب المعادلة التي كانت ترتكز عليها الإصلاحات في السابق؛ بحيث سننتقل من إصلاح الإدارة نفسها، أي إصلاح أوضاع الموظفين والبنيات والتجهيزات والهياكل الإدارية، إلى مرحلة إدارة متمركزة حول المواطن. وهذا يعني إعادة النظر في فضاءات الاستقبال؛ حيث سيتم وضع معايير موحدة في هذا المجال.
ثانيا، تمكين المواطن من حق الولوج إلى المعلومة، ثم تبسيط المساطر الإدارية؛ هذا ورش كبير يتم الاشتغال عليه الآن ضمن مرسوم جديد يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية وهي: تدوين جميع المساطر والخدمات الإدارية، والإعلان عنها، ثم الإلزام، أي إن القانون سيكون ملزما للموظف تحت طائلة الخطأ المهني؛ إذ لا يمكن للموظف أن يتسلى بأن يطلب من المواطن ما شاء من الأوراق والنسخ وهي غير مدونة.
بجانب هذه الإجراءات، سنحاول أن نخرج الإدارة المغربية من العصر الورقي إلى العصر الرقمي؛ لأن الثورة التكنولوجية تُتيح الفرص ليس فقط لتحقيق إدارة أكثر نجاعة، ولكن أيضا لتحقيق النزاهة الإدارية. المواطن سيصبح بإمكانه أن يُنجز بعض أغراضه الإدارية بدون أن يدخل في علاقة مع أحد الموظفين وراء الشباك.
وماذا عن موظفي الدولة الذين قال عن بعضهم الملك “لا يتوفرون على ما يكفي من الكفاءة، ولا على الطموح اللازم، ولا تحركهم دائما روح المسؤولية، وأن العديد منهم لا يقضون سوى أوقات معدودة داخل مقر العمل”؟
الشق الثاني في هذا الإصلاح يُجيب عن سؤالك، ويتعلق بنظام الوظيفة العمومية الذي لا زال المغرب يدبره بالنظام الأساسي العام لسنة 1958، وسيكون من المعقول أن نعمل على ملاءمته مع الدستور الجديد ومع التطورات الحاصلة في إطار نص قانوني جديد. هناك العديد من نماذج الوظيفة العمومية في مختلف الدول مبنية على تدبير الكفاءات، ولكن نظامنا مبني على تدبير المسارات المهنية للموظفين، بمعنى أنه بدلاً من أن نستمر في تدبير الموارد البشرية انطلاقاً من الإطار والدرجة والسلم الإداري، سيتم إدخال قواعد جديدة لتدبير العنصر البشري انطلاقا من الكفاءات والوظائف وليس بـ”الغراد”.
هل أفهم أنه سيتم التخلي عن السلم الإداري في الترقية؟
ليس بالضرورة؛ لأن أي إصلاح لا يُمكن له أن يتخلى عن المكتسبات الاجتماعية، هناك اصلاحات ينبغي أن تأخذ مداها الكافي ليتم استيعابها بكيفية سلسة. المقصود هنا، هو إدخال معيار جديد لتدبير الموارد البشرية هو “الكفاءة”، مثلا يمكن للموظف أن يتقلد منصباً عالياً انطلاقا من كفاءاته، وليس من أقدميته في الدرجة.
نحن لسنا ضد الاستقرار الذي يتمتع به الموظف العمومي، نعم للأمن الوظيفي ولكن ما دام الموظف يؤدي خدمة للمواطن على أحسن وجه. أما إذا كان العكس، فهذا الأمن الوظيفي يُصبح نوعا من الريع وغير مستحق. النظام الجديد ينبغي أن يربط أوضاع الموظفين بتقديم الخدمة للمواطنين في كل القطاعات، فالوظيفة العمومية ليست ملاذاً للراحة والأمن الوظيفي مدى الحياة، بينما نجد خبراء وكفاءات في القطاع الخاص لا تتمتع بهذا الأمن الوظيفي.
اليوم، هناك تجربة التوظيف بالعقدة التي دخلت حيز التنفيذ مع الحكومة السابقة، هل تعتقدون أنها مدخل لإصلاح الإدارة؟
التوظيف بالعقدة سيسمح للإدارات العمومية بالتعاقد مع خبرات وكفاءات عالية. هل تعلم بأن هناك حالة تصحر في منظومة الأجور بالمغرب؛ ولذلك تجد معظم الكفاءات أصحاب التخصصات الدقيقة تفر إلى القطاع الخاص. هذه أسئلة واقعية يجب الإجابة عليها، الوظيفة العمومية الآن لا تتوفر على جاذبية لاستقطاب هؤلاء الكوادر، كل ما هو معروف عليها أنها تُحقق نوعا من الاستقرار والأمن الوظيفي. فالتوظيف بالكونطرا هو إذن متنفس للإدارة المغربية حتى تتمكن من تشغيل عدد من الخبرات بعقدة محددة بالزمن.
ولكن هناك من يرى في “الكونطرا” بداية للإجهاز على الوظيفة العمومية.. ما تعليقكم؟
الوظيفة العمومية لديها مكانة مهمة في نسيج الدولة المغربية، من الصعب أن تجد عائلة لا يوجد ضمنها فرد في أسلاك الوظيفة العمومية. هذه الأخيرة لعبت دورا أساسيا في تطوير المجتمع المغربي واستقراره وتماسكه، ولا يمكن لأي عاقل أن يتصور إجراء من هذا النوع يمكن له أن يجهز على الوظيفة العمومية. دولة مثل المغرب لا يمكن أن يحصل فيها هذا الأمر، ولكن في الوقت نفسه ليست هذه الوظيفة العمومية التي كانت محط انتقاد قوي من طرف جلالة الملك.
اليوم هناك إجماع على أن الوظيفة العمومية هي الرجل المريض، ولم يعد ينفع معها بعض الإجراءات والترقيعات وسياسة إرضاء الخواطر. يجب الانتقال إلى مرحلة جديدة تكون فيها الترقية مبنية على الكفاءات والوظائف، وليس على تدبير الدرجات والسلالم. سنحاول أن نطرح جميع هذه القضايا في حوارات مؤسساتية مع المهنيين قبل أن تُعرض على المجلس الأعلى للوظيفة العمومية، للإجابة بدقة على كل ما نبه إليه خطاب عيد العرش وخطاب افتتاح السنة التشريعية.
ولكن، الوزير السابق أطلق حواراً جهوياً حول إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية، والأكيد أنه كلف ميزانية لا بأس بها.. كان من المفروض أن تُكمل ما بدأه زميلك، أليس كذلك؟
أنا لم أعثر في هذه الوزارة على أي حوار حول الوظيفة العمومية، إذا كان أحد الصحافيين يتوفر على هذا الحوار يتفضل ويقدم لنا محضره. إذا كان الوزير السابق نزل إلى الأقاليم هذا شيء آخر، ولكن بالنسبة للحوار الذي نطمح إليه فأكثر من شهرين وأنا أعد له فقط منهجية والفئات التي ينبغي دعوتها إليه. نحن سنقوم بحوار على مستوى الجهات باجتماعات علمية مهنية ومنهجية ستكون مركزة، ورؤساء جلسات ومحاور محددة وتمثيلية تشارك فيها جميع الفئات المعنية بالوظيفة العمومية.
أنت إذن ستبدأ من الصفر وتضرب عرض الحائط الإصلاحات السابقة؟
لا بالعكس، الوزير الذي أمامك لم يبدأ من الصفر، بل هناك استمرارية؛ لأن بداخل هذه الوزارة خبرات وطنية اشتغلت مع قطاعات حكومية أخرى وهيأت تصورات تم خلالها الوقوف على الخلل في الوظيفة العمومية. هذا عمل جيد، ولكن نحن الآن أمام مشروع كبير سنقبل عليه هو مراجعة منظومة الوظيفة العمومية بصفة عامة. ما كان ينظم في السابق أنا لست معنياً به، فالكل يتحمل مسؤوليته.
نختم معك بالعودة إلى خطاب عيد العرش الذي لمح فيه الملك إلى إمكانية التدخل انطلاقا من الفصل 42 من الدستور لمحاسبة كل مسؤول تورط في تأخير مشاريع أو تقاعس في أداء مهامه الحكومية.. ما تعليقك؟
مسألة محاسبة مسؤول حكومي لا يجب أن تتحول إلى نوع من الفرجة أو التشويق الإعلامي، فربط المسؤولية بالمحاسبة هذا اختيار دستوري، وجلالة الملك ذكر بالاختصاصات المخولة له. هذا الأمر هو ملح الحياة السياسية في الدول الديمقراطية. مثلاً، رئيس الحكومة الإسبانية مثُل أمام المحكمة قبل بضعة أيام.
ولكن، في المغرب لا نرى سياسيا أو مسؤولا مثُل أمام المحكمة أو زج به في السجن؟
نحن ماضون في هذا الأمر، المسؤولية ينبغي أن تخضع للمحاسبة. وهنا يجب أن أختم بالقول إنه والحمد لله المغرب لديه ما يكفي من الضمانات الحقوقية ومن آليات التتبع، الدولة واجهت تحديات كبرى خارجية وداخلية ولديها خبرة عالية للتعامل مع مختلف السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي فإن خطاب عيد العرش ينبغي أن يُفهم كمقدمة لمسار جديد، ويمكن أن جانبا منه هو مقدمة لتفعيل استقالة المسؤولين بمرتكزات قانونية وليس بمنطق بصراوي (نسبة إلى إدريس البصري).
الخطاب إذن هو مقدمة حقيقية للتنزيل الحقيقي لمضامين الدستور، وربما الأغلبية الحكومية السابقة قصرت في هذا الجانب، لهذا ذكر جلالة الملك بالمضامين الأساسية له، نحن إذن مقبلون على مرحلة جديدة ستعاد فيها أدوار المؤسسات والمسؤولين بصفة عامة.