تفرض علينا تحديات العصر الحالي اعادة النظر في منظوماتنا الادارية التربوية عبر تغيير فلسفة وبنية واوضاع هذه الادارة، واذا كانت اللامركزية واللاتمركز اختيارا استراتيجيا لا محيد عنه في عمليات التغيير، فان التجديد الذاتي للإدارة التربوية يعد ضرورة حتمية.
ان وثائق المشاريع الاصلاحية التربوية التي عرفها المغرب حديثا لا تتضمن استعراضا ولا تشخيصا لحالة الادارة التربوية، كما انه لم يتم وضع ميثاق وطني اداري ملائم وتام او كتاب ابيض اداري يتضمن الاجراءات المتعلقة بالهيكل التنظيمي وادوار الفاعلين التربويين بمختلف مستوياتهم ودرجات مسؤولياتهم الوسطى والعليا والدنيا للإدارة مما جعل ادارتنا التربوية تعاني من ازدواجية المهام، فهي تجمع بين مقتضيات التدبير الاداري الحديث من قبيل المردودية والتواصل والكفاءة …ولكنه في نفس الان ثم الاحتفاظ بإرث النظام الاداري التقليدي القائم على نزعة التقديس وشخصنة السلطة وطاعة الموظفين للأوامر وتكريس علاقة التبعية بين الرئيس والموظف. واستمرار هذه العلاقات التقليدية في الادارة ساهم في ارساء الزبونية فاضعف حس المسؤولية مما نجم عنه تنامي الانحرافات في التسيير.
لقد اشار الاستاذ محمد بردوزي الى بعض العراقيل التي جعلتنا نرسف في اغلال من التجارب والممارسات الادارية الفاشلة، وهي تشكل بالنسبة لنا عقدة تحول بيننا وبين ملاحقة ركب الحداثة من قبيل تنافر اجهزة الدولة وتعددها وانتشارها الكثيف وما يتطلبه العاملون فيها من اطر ومسؤولين من تكاليف متزايدة وهذا ما افرز مراكز التأثير والمقاومة ضدا على مبدا اندماج نظام التربية والتكوين في مجموعة – مجلة عالم التربية ( العدد 12- ص 95).
بالفعل ثم القبض على مؤشر عدم قدرة الادارة التربوية على مسايرة التغيرات المعرفية والتكنولوجية والتنظيمية …وهذا من اسباب عجز ادارتنا في متابعة المشاريع الاصلاحية لكون جهازنا الاداري التربوي جهاز بيروقراطي يتصف بالجمود وتنقصه الفعالية والكفاءة والتكوين …فإذن لابد من التغيير.
وكل تغيير في اوضاع الادارة التربوية تستتبعه بالضرورة عمليات اعادة النظر في التنظيم الداخلي لمستويات واقسام هذه الادارة، لكن التغيير الاهم هو الذي يجب ان يحصل في العلاقات الوظيفية والانسانية والتواصلية :
ان التخطيط والتنظيم والقيادة والتنسيق والرقابة وباقي الوظائف الادارية غالبا ما تأخذ شكل قرارات ادارية، وهذه القرارات الادارية ليس لها قيمة مالم يتم ايصالها للمنفذين عبر شكل من اشكال التواصل والاتصال وان التواصل والاتصال هما الموجه الحقيقي والضامن لنجاح العاملين في اداء مهامهم على الوجه المطلوب بل انهما روح الانشطة في المؤسسة التربوية وبدونهما لا يمكن ان تتحرك المؤسسة لتحقيق اهدافها.
ان على ادارة المؤسسة او رئيسها ان يراعي عند قيامه بالاتصال والتواصل مع موظفيه التشجيع على الكلام والحديث والاتصال كما يجب ان لا يظهر بمظهر الخبير الصعب الفهم، بل ان يقيم علاقة الثقة والوضوح بينه وبين موظفيه وان تستمر الاتصالات متدفقة في الاتجاهين حتى يجد الافراد العاملون في المؤسسة التربوية ثقافة فن الانصات الجيد وتأصيلها في التسيير والتبليغ وتوسيع دائرتهما.
ان رؤساء المؤسسات التعليمية المتمرسون بالعمل الاداري والمبدعون في فن التواصل يتوفرون على قدرات وخبرات خاصة تسمح لهم باكتشاف وتطوير وتمجيد قدرات ومقدرات كل فرد من افراد ادارته. اما الاخرون فيكونون حراسا للنصوص والاعراف الادارية ولا يتصرفون كقوة مصححة ومعالجة من موقع الاسانيد المعرفية والتربوية التي تؤطرهم لأي خلل او اعوجاج، فيبقون محتمين ومتدرعين بالتطبيق الجاف للإجراءات التنظيمية والقانونية في منطوقها السببي …
ما اوجه الاختلاف بين الادارات التربوية ؟ وكيف تتميز ادارة عن اخرى ؟
هناك العديد من الدراسات والبحوث الميدانية انجزت عن الادارة التربوية وعن دور المديرين ورؤساء المؤسسات التعليمية وخاصة في الجانب المتعلق بالقدرات والكفاءات والصفات المميزة والفريدة لهؤلاء المديرين…لكن القليل من هذه البحوث التربوية هي من تناولت ما يحدث من تفاعلات وتجاذبات انسانية وتواصلية ايجابية اومن اجراءات وقرارات ادارية وتدبيرية يومية مبدعة ومحفزة تتيح لهؤلاء المديرين الحصول على افضل ما لدى موظفيهم بتمكينهم من اطلاق العنان لقدراتهم الكامنة في المجالات التي يجدون انفسهم فيها، وليس بقولبة تلك القدرات وتجميدها او وضعهم في المكان الخاطئ. ومن هنا يمكن طرح السؤال المحوري كيف يجب ان يتصرف المديرون؟ وهل يسمح النظام الاداري بالاجتهاد والابداع داخل نصوصه وقراراته ؟
من خلال بحث ميداني قامت به مؤسسة غالوب Gallup Organisation ومسح ميداني لعشرات المئات من المديرين استمر لأكثر من سنتين مصحوبا بدراسات ميدانية معمقة لتجارب فريدة من هؤلاء المديرين، اكدت في بحثها ان هناك انماطا عديدة من الادارة مثلما ان هناك انماطا عديدة من تجارب المديرين لكن ارتكزت على التجارب الناجحة التي لا تسايرالإيقاع الروتيني للإدارة والخاضع لسلطة العرف الاداري بعيدا عن اي ابداع وخلق جديدين، وتم الاقرار على ان هناك خاصية واحدة تفصل بين تجارب المديرين المتنوعة والمختلفة والمعاكسة للإيقاع الاداري المتوارث، وهي ان تجربة المديرين المتفردة تتمثل في امتلاكهم القدرة والحدس على اكتشاف ما يتفرد به كل من موظفيهم من ملكات ومقدرات وكفايات خاصة ومن تم يستغلونها ويفيدون من تلك الخاصية الفريدة في ادارة ذلك الشخص او ذاك الموظف اما في العلاقات الادارية التقليدية فلا يتعدى دور المسؤولين الاداريين مسايرة ومتابعة الاوضاع وتقييم عمل الموظفين بنفس المقاييس وبالتالي فهم لا يتعدون كونهم اشبه ب ( لاعبي الداما بينما يشبه المديرون المتميزون لاعبي الشطرنج، والفارق هنا هوان احجار الداما متماثلة وتتحرك بالطريقة نفسها ويمكن تعديل اي واحدة بأخرى وبالطبع تحتاج الى تخطيط وتنسيق التحركات ولكنها تتحرك بالطريقة نفسها وبالتوازي، اما في لعبة الشطرنج فان كل حجر يتحرك بطريقة مختلفة ولن تستطيع اللعب ان لم تعرف وجهة كل حجروهنا يأتي دور المدير البارع الذي يمسك بخيوط اللعبة بمهارة فائقة ويحرك حجارته ( موظفيه )على النحو الذي يحقق افضل النتائج فهو يعلم ويثمن القدرات الفريدة – وحتى الغريبة – لموظفيه ويعرف جيدا كيف يعمل على دمجهم في خطة هجوم متكاملة مع بقية زملائهم ) ماركوس بكنغهام – ترجمة حسام حسني بدار.
من خلال هذه المقارنة بين لاعب الداما ولاعب الشطرنج يتبين ان الادارة التربوية المجتهدة والمتجددة تظهر من خلال قدرتها على تحويل الموهبة الخاصة لذى كل موظف يعمل لديها الى انجاز، فهي تستطيع ان تميز الفروقات الموجودة لذى موظفيها واعوانها وان توظف تلك الفروقات بصورة ايجابية مستثمرة نزعة التحدي في كل واحد منهم حتى يتفوق كل بطريقته الخاصة.