إن التربية مدى الحياة تهدف إلى تزويد كل أفراد المجتمع بالأدوات التي تساعدهم على تفتح شخصيتهم وعلى الاندماج الاجتماعي الفعال والمساهمة في مجتمع المعرفة بشكل إيجابي.
إن الحاجة إلى إدماج مبادئ التعلم مدى الحياة في التربية والتعليم وفي السياسة العامة للتنمية، شيء يفرض نفسه أكثر فأكثر، شريطة أن يتم ذلك بكيفية منظمة، بحيث تساهم مبادئ التعلم مدى الحياة في بناء مجتمعات تسودها العدالة والمساواة. ومن أجل هذا قامت اليونيسكو بنشر تقريرين هامين في مجال التربية مدى الحياة، وهما تقرير إدجار فور (E. Faure)[1] (1972)، وتقرير دولور (1996)، وقد بين هذان التقريران المبادئ الأساسية لهذه التربية، كما وضعا استراتيجية المدى المتوسط لهذه التربية، والتي امتدت من 2008 إلى 2013 مبينة الأهداف المحورية لقطاع التربية والتي من بينها: ” تحقيق تربية متسمة بالجودة للجميع والتعلم مدى الحياة “. كما أن عقد الأمم المتحدة للتربية من أجل التنمية المستدامة قام بالتنسيق مع اليونيسكو للتركيز على أهمية التعلم مدى الحياة واعتباره مفتاح الدخول إلى القرن الحادي والعشرين. ونجد أيضا أن إطار عمل بلم (Le Cadre d’action de Beléme)[2] ركز بدوره على الدور الكبير للتعلم مدى الحياة، وذلك بالنظر إلى المشكلات العامة للتربية وتحديات التنمية. ونظم معهد اليونيسكو للتربية مدى الحياة خلال العشرية الأخيرة بدوره مجموعة كبيرة من الأنشطة التي تتعلق باستراتيجية هذه التربية، كالقيام بالبحوث ودعم قدرات الإنسان وعقد الشراكات وغيرها، إلخ.
ولما كان للتربية مدى الحياة هذه الأهمية المحورية، واستنادا إلى هذا السياق، فإن من الأهمية بمكان تحليل مفهوم التربية مدى الحياة وبعض المفاهيم المرتبطة بها، وبشكل خاص الحاجة إليها في الألفية الثالثة التي تشهد تغيرا سريعا يطال كل شيء، و ذلك من خلال التصميم التالي:
أولا: مفهوم التربية مدى الحياة؛
ثانيا: دواعي التربية مدى الحياة ومرجعيتها الأساس:
- خصائص مجتمع المعرفة وحاجاته الأساس
- مظاهر ومقومات منظومة التربية مدى الحياة
ثالثا: إعـداد المدرسين وتنميتهم مهنيًّا وفق مفهوم التعلم مدى الحياة.
رابعا: التربية مدى الحياة في المجتمعات النامية.
خلاصة عامة.
إن مفهوم أو شعار ” التربية مدى الحياة ” كثيرا ما يستخدم في ارتباط بالتنمية المجتمعية وبمجتمع المعرفة. ومن هنا يتوجب علينا فهم دلالة هذا الشعار الذي تتناقله منظومات التربية والتكوين في مستهل الألفية الثالثة بشكل متواتر.
إن من بين المهام الأساسية لبرامج وأهداف التعلم مدى الحياة: الاستثمار في الموارد البشرية، وزيادة تعلم أفراد الشعب، وتحويل المدارس والمؤسسات التعليمية إلى مؤسسات متعددة الأغراض، بحيث تكون مفتوحة أمام الجميع، وتستثمر خدمات تكنولوجيا الإعلام والاتصال بكيفية جيدة وبصفة مستمرة.
يعرف الاتحاد الأوربي ” التربية مدى الحياة بأنها ” مفهوم يغطي كل أنشطة التعلم التي تتم لأهداف شخصية ووطنية واجتماعية وكذلك لأهداف مهنية “. من خلال هذا التعريف نجد أن لهذه التربية تحديات كبيرة، فأهدافها لا تقتصر على السعي الدائم والمستمر لتفتح شخصية الفرد فقط، وإنما أيضا تنمية وتطوير مجتمعه، خاصة عندما ننظر إلى سعة وشمول الأفراد الذين تشملهم هذه التربية، وتعدد المواقف والوضعيات المهنية التي يمكن أن تصل إليها.
ومن جهة ثانية، ومن منظور آخر، فإننا نستطيع فهم ضرورة وأهمية التربية مدى الحياة، وذلك بالنظر إلى عدم اكتمال تكوين الإنسان، عند دخوله إلى معترك الحياة. ذلك أن بعض الباحثين يعتبرون مفهوم ” الراشد” أسطورة أكثر منها واقعا في سياق نمو ونضج الإنسان. كما نجد ذلك على سبيل المثال لدى جورج لابساد (G. Lapassade ) في كتابه ” أسطورة الراشد ” Mythe de l’adulte” . وبهذا المعنى فإن فكرة التربية مدى الحياة تنبثق ضرورتها وأهميتها من نقص الإنسان وعدم اكتماله على صعيد النضج المعرفي وعلى صعيد خبرات الحياة.
إن التربية مدى الحياة تغدو في هذا المنظور أفقا لا يتعلق فقط بالأنشطة المهنية التي تقتضي التكوين والتطوير المهني المستمر، وهو المطمح الذي ظهر منذ السبعينيات من القرن الماضي، فهو في الوقت الراهن غدا مفهوما متسعا يتجاوز التكوين المستمر في مجال النمو المهني، ليدل كذلك على السعي إلى توسيع وتعميق ثقافتنا وتكويننا الدراسي باستمرار. كما يتعلق بالحياة الاجتماعية والحياة الثقافية ويمس مختلف أنشطة الحياة الأسرية وأنشطة الوقت الثالث وغيرها، إلخ.
كما ينبغي أن نأخذ مفهوم التربية مدى الحياة في بعده الزمني الطويل في الحياة، دون أن نستثني مرحلة ما بعد الستينيات من العمر، فنجعل التربية تبدأ منذ سن مبكرة ثم تستمر مدى الحياة وتأخذ بعين الاعتبار كل الأنشطة التكوينية النظرية منها والتطبيقية.
إن مختلف هذه الخصائص والسمات السالفة الذكر التي تشكل بنية مفهوم التربية مدى الحياة تسعى في مجملها إلى إطالة زمن وعمر الفعل التربوي حتى يشكل قوة إضافية في يد الفرد والمجموعات البشرية لربح الرهانات المطروحة في عصر العولمة ومجتمع المعرفة.
إن العمل التربوي يسعى على إعداد المتعلمين لتحقيق أفضل اندماج مع مجتمعهم، مما يستلزم من عملية التربية التطور والتغير الدائم لاكتساب الكفايات والمهارات التي يتطلبها عصرهم. ولما كانت المجتمعات البشرية تشرئب إلى الانخراط الإيجابي في مجتمع المعرفة، فإنه من اللازم معرفة متطلبات هذا المجتمع الجديد للانخراط فيه بفعالية. ومن هنا اتجهت مختلف النظم التربوية الحديثة إلى التركيز على مفهوم التعلم مدى الحيـاة، لإعداد المتعلمين للاندماج في واقع حياتهم الجديد، الذي يعرف العديد من التغيرات التي تتطلب التطوير والتجديد الدائم والمستمر للخبرات والتعلمات المكتسبة.
1.خصائص مجتمع المعرفة وحاجاته الأساس
يعيش العالم في العقود الأخيرة من الزمن تحولات جذرية، على شكل نقلة نوعية في تاريخ تطور المجتمعات البشرية، مما كان له تأثير واضح على صعيد العديد من مستويات الاقتصاد العالمي، وعلى الثقافة الإنسانية بشكل عام. وإذا كان المقصود بمجتمع المعرفة ما يزال غير واضح بالكيفية المطلوبة، فهو مفهوم ما يزال في طور التشكل والنضج، إلا أنه كثيرا ما يشار إلى أن هذا المجتمع هو ذلك المجتمع الراهن الذي بلغته المجتمعات البشرية التي خطت خطوات هامة في التقدم والازدهار. فهو على وجه التحديد ذلك المجتمع الذي يقوم أساسا على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد، المجتمع المدني، السياسة، والحياة الخاصة، على نحو يتكثف فيه المدخل المعرفي في الحياة اليومية لأعضاء ومؤسسات هذا المجتمع، وتتفاعل فيه المعرفة وتتقاطع مع التقانة والاقتصاد والمجتمع بشكل تفاعلي. وتتوافر له بيئات تمكينية مساعدة ومحفزة من تشريعات ومؤسسات وانفتاح وحرية وتواصل عبر تقنيات المعلومات والإعلام والاتصال بشكل يعم الكرة الأرضية. وخلاصة القول فإن مجتمع المعرفة يُـفترض فيه أن يُنتج ويتقاسم ويستعمل المعرفة لضمان الرفاهية والتقدم لأفراده كافة. ومجتمع المعرفة مجتمع يقاس فيه تقدم أي مجتمع وتطوره بمقدار توافره على البيئة الحاضنة للمعرفة والمساهمة في إنتاجها وتطوير أسسها إبداعاً وابتكاراً[3].
واستنادا إلى ما سبق، فإن استغلال الطبيعة أحسن استغلال وأجوده، وإدارة رؤوس الأموال وتحريكها وتطوير التقانة من أجل إنتاج السلع والتبادل التجاري، كلها تحتاج إلى العناصر البشرية الماهرة في عالمنا الذي يشهد تطوراً، مما يدعو إلى تطوير قدرات الإنسان بشكل دائم ومستمر من أجل العمل المنتج للفرد والمجتمع ويساهم في إنتاج موارد بشرية قادرة على امتلاك رؤى وتصورات استراتيجية وخلق آليات التنفيذ والتقويم والمتابعة لإنجاح الخطط التنموية.
إن تكوين العنصر البشري المتسلح بالمعارف والخبرات والمتمكن من المبادرة الخلاقة ينبغي أن يتصدر أولويات السياسات والاستراتيجيات التنموية. فالإنسان يشكل أهم العناصر الإنتاجية التي يمكن أن تساهم بفاعلية في تحقيق الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي وصولا إلى التنمية الشاملة[4].
إن طبيعة المجتمعات الجديدة التي وصفها البعض بأنها ” مجتمعات المخاطر“، تجعل التقدم المعرفي والتكنولوجي والأفراد في حالة مواجهة علمية ومعرفية دائمة.
وفي هذا السياق علينا ألا نخلط بين مجتمع الإعلام (société de l’information )، كما تدعو اليونيسكو إلى ذلك، وبين مجتمع المعرفة (société du savoir ). فهذا المفهوم الأخير يتضمن بعدا إنسانيا لا يتوافر في الأول:
إن مجتمع الإعلام يشكل فيه الإعلام سلعة لها قيمة يمكن تغييرها عن طريق البيع والشراء ويمكن تخزينها ونقلها ومعالجتها. وخاصية مجتمع الإعلام هي التكنولوجية. فمجتمع الإعلام هو مجتمع الفجوة الرقمية.
أما مجتمع المعرفة فإنه ينبغي أن يكون مجتمعا إنسانيا يستجيب لطموحات الأفراد ويتيح لهم العدالة والتضامن والديمقراطية والسلم. وينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار تحديات إنسانية واجتماعية وثقافية وسياسية. يهتم مجتمع المعرفة بالمضامين أكثر من اهتمامه بالاتصال، إنه يهتم بالمعرفة أكثر من الاهتمام بتخزينها.
إن أهمية المعرفة تضاعفت من جراء العولمة والتطورات العلمية والتكنولوجية في العقود الأخيرة، لاسيما تقانة المعلومات والاتصال.
ووفقا لمفهوم مجتمع المعرفة، يلعب الاستثمار في التعليم دورا محوريا في تنمية الموارد البشرية وتوسيع فرص الشباب وقدراتهم على المساهمة في هذه النقلة النوعية التاريخية التي أحدثت مجتمع المعرفة بهذا المعنى الواسع للمفهوم. وفي هذا الإطار أصبح العاملون في المعرفة هم الأساس لتنمية الثروة الاقتصادية، ولم تعد الأنشطة الرئيسية المنتجة للثروة تكمن في استخدام المواد الخام أو رأس المال أو العمالة وإنما صارت القيمة المضافة “تنتج من خلال التجديد والإبداع ومن خلال تطبيق المعرفة في العمل. وتتحدد قيمة السلع في المعرفة التي تكمن في المنتج النهائي”.[5]
وإذا كان مجتمع المعرفة حالة من التقدم في سلم الحضارة الإنسانية، فهو ليس مجتمع المعلومات. فالمعلومات سلعة يتم تبادلها وشراؤها وبيعها. والمعلومات حالة وسط بين البيانات والمعرفة. والمعرفة مفاهيم ورؤى وإبداعات في عقل الإنسان قبل أن تجسد في منتجات أو توثق أو تضمر في خبرات الأفراد. ومجتمع المعرفة مجتمع إنساني يفرض القيم الإنسانية على استعمال المعلومات وتداولها من أجل تدعيم قيم العدل والتضامن والسلام من خلال جعل المعلومات والمعرفة متاحة للجميع في خدمة الإنسان ( Austin 2008). كما لا ينحصر مجتمع المعرفة في الاقتصاد فحسب، فالاقتصاد ليس إلا أحد ميادين المعرفة لإنتاج الثروة. إن مجتمع المعرفة حالة تتحقق من خلال مستوى عال من رأس المال البشري المسلح بالمعارف والمهارات التي تجعل أعضاءه قادرين على العمل معاً في فريق، حتى وإن كانوا متواجدين في أماكن متفرقة، وقادرين على الاعتماد على الذات وتسيير الذات وحل المشكلات جماعياً، وقادرين أيضاً على الإبداع والتجديد، ويمتلكون مهارات التواصل والفهم والعمل في بيئات متعددة الثقافات، ولديهم مستوى عالٍ من القدرة على التفسير المنطقي والتحليل والتركيب والتعلم الذاتي المستمر مدى الحياة ( Austin 2008).