قراءة في كتــاب ” إميــل أو التــربية ” لجون جاك روســو

من بين المرجعيات البارزة في فلسفة التربية، نجد الاتجاه الطبيعي الذي حدد معالمه الفيلسوف جان جاك روسو، وبالخصوص من خلال كتابه المشهور إميل أو التربية. من خلال هذا المقال سوف نقوم بإطلالة على أهم ما ميز التربية الطبيعية كما فهمناها من الكتاب، لكن قبل ذلك سنعطي نبذة حول صاحب الكتاب.

ولد جون جاك روســو في جنيف من أب ساعاتي و أم أديبة و فنانة، توفيت و روسو لم يبلغ بعد الأسبوع الأول بسبب مضاعفات الولادة، وكان لذلك أثر كبير في نفسيته حيث يقول في كتابه إميل أو التربية “لقد كلفت ولادتي موت والدتي “. في العاشرة من عمره التحق بمدرسة خارج جنيف تعلم فيها الفلاحة و عمل البساتين … وفي التاسعة عشر تعرف على السيدة دي وارنر وألحقته بالمدرسة وتعلم الموسيقى، كما درس مبادئ اللغة اللاتينية وتعرف على ما كتبه فلاسفة و مفكرون من مختلف العصور …
في 1741، رحل إلى باريس، تزوج تيريز ليفاسيير الفتاة الريفية التي تشتغل بإحدى الفنادق أنجب منها 6 أطفال ألحقهم بدار رعاية الأطفال …

وجوده في باريس أتاح له الاتصال مباشرة بزعماء حركة التنوير كفولتير و ديدرو ….
عاش حياة البؤس و الشقاء في مختلف مراحل حياته جعلته على دراية عميقة بأسرار المجتمع في عصره، و ما يحيط به من المفاسد، و يجهر برأيه في التربية والاجتماع و السياسة و الاقتصاد غير مبال بما قد يناله من عقاب …

من الكتب التي يعترف بتأثيرها في أفكاره هي جمهورية أفلاطون، ورسائل مونتين في التربية، ورسائل جون لوك في التربية و السياسة …

من أهم كتاباته: مقالة عن الفنون والعلوم، مقالة عن أصل عدم المساواة بين الناس، مقال عن الاقتصاد السياسي، العقد الاجتماعي، إميل أو التربية، اعترافات. …

كان له آراء في مختلف المجالات أبرزها إيمانه بفكرة الدولة الطبيعية وبفكر المجتمع الطبيعي… أما فيما يخص آراءه في التربية فقد جاء بما يلي:

استأثر حقل التربية باهتمام فلاسفة عصر الأنوار في القرن الثامن عشر وأفردوا له حيزا مهما من تفكيرهم، والواقع أن هذا الاهتمام ينصب في اتجاه تحليل وتشخيص وضعية المجتمع الأوربي في العهد الذي نعتته الأسطغرافيات التاريخية بالعهد البائد l’ancien régime، كمحاولة منهم لفلسفة اللحظة التاريخية وتفسيرها تفسيرا علميا، قصد فهم معيقات التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وذلك عبر تصويب سهام النقد إلى شرور الحياة العامة وفساد الأخلاق والمنظومة القيمية. نلتقي هنا مع تلك التصورات التي صاغها رائد الفكر الحديث في حقل التربية جون جاك روسو عن التربية، في مؤلفه الضخم، ايميل والتربية موضوع هذا المقال.

نسعى من خلال هذه النظرة البانورامية، إلى التقاط المفاصل الأساسية في تصورات و فكر جون جاك روسو عن التربية، وإلى تسطير أهم القضايا والإشكالات التي أثارتها التربية في علاقتها بالمجتمع من جهة، وبالسياسة من جهة مغايرة، ضمن قالب نقدي يسعى إلى طرح الأفكار في زمنها التاريخي، واستجلاء الأثر الذي خلفته مثل هذه الأفكار على مسار التربية في الزمن اللاحق .والأكيد أن التصورات التي صاغها روسو عن إميل لم تشخ بعد، ولازالت لم تفقد بعد خصوبتها في حقل التربية، بل لا زالت لأصدائها راهنية في الحقل الأكاديمي، الشيء الذي يجعل من استحضاره في وقتنا الراهن أمرا ذا أهمية.

كتاب إميل يعد مصدرا أساسيا في الفكر التربوي وصيحة جريئة، بل وثورة كوبرنيكية في زمن انحلت فيه الأخلاق وبسطت فيه الكنيسة المسيحية وصايتها على المجتمع. كما أنه إسهام في عملية التحليل التي تتناول فكر واحد من أهم المفكرين الذين أرسوا الدعائم الأولى للحرية والحرية في التربية، حيث اعتبر مسألة فساد الأخلاق داخل المجتمع لها تأصيلات في التربية.

يرفض روسو الأسلوب الذي يعتمد على الحفظ والاستظهار لأفكار بالية فاسدة، تجعل من الطفل آلة طيعة في مجتمع منحل وتهبط بمستوى قدراته إلى الحضيض. في مقابل ذلك يقترح أن يكون التعليم بمثابة تجربة سعيدة في حياة الطفل، تنمي قدراته وتعتني بصحته وخلقه وذكائه وقدرته على الخلق والإبداع والابتكار.

يتحدث روسو عن طريقته في التربية حسب الطبيعة.،و يبسط مبدأه الرئيسي في الجملة الأولى من الكتاب فيقول: ” كل شيء خير حين يخرج من بين يدي خالق الطبيعة، ولكن كل شيء يفسد في يدي الإنسان” ص13 ،ومع أن روسو لا يثابر على استعمال كلمة (طبيعة) بمعنى واحد صريح، فما المعاني التي أعطاها روسو للطبيعة؟

أولا: معنى كلمة طبيعة في كتاب (إميل) هو المعنى الاجتماعي، فهو يرينا في كتابه (العقد الاجتماعي) إمكان بناء حالة من الثقافة العالية على مبدأ سياسي أصدق، وبالتالي إمكان نشوء نوع من الحياة الاجتماعية أسمى من حياة القرن الثامن عشر الاجتماعية. وفي (إميل) يصف روسو تربية مبنية على معرفة صحيحة لطبيعة الإنسان الصادقة، لا على شكلية المجتمع وتقاليد المدرسة التي لا معنى لها والجهل الفاضح بالطفولة. كما أنه أشار في (العقد الاجتماعي) إلى أن حقوق الإنسان الوحيدة هي الموجودة في قوانين طبيعته الخاصة، ويشير إلى وجوب قيادة هذه القوانين نفسها للعملية التربوية، فالإنسان الطبيعي ليس الإنسان المتوحش ولكنه الإنسان الذي تحكمه وتوجهه قوانين طبيعته الخاصة، وهذه القوانين إنما تكتشف بالبحوث شأنها في ذلك شأن قوانين أي جزء من الطبيعة.

فإذا كان هذا هو المعنى الأول للتربية حسب الطبيعة فلا بد من الاصطدام بالمجتمع نتيجة لذلك: ” علينا أن نختار بين صنع إنسان وصنع مواطن لأنه من غير الممكن صنعهما في الوقت نفسه” ص43. إلا أنه من الواجب أن نذكر بأن روسو حين يقول ما يقول إنما يعني مدنية القرن الثامن عشر، كما أن العواطف الابتدائية والغرائز الطبيعية والانطباعات الأولى يمكن الوثوق بها كقاعدة للعمل أكثر من التأمل والتجربة التي تتكون عن طريق الاتصال بالآخرين: ” إن ما أسميه طبيعتنا هو استعداداتنا قبل أن يطرأ عليها تغيير، عن طريق عادات التفكير والمحاكمة التي نقتبسها من غيرن” ص56. ولذلك فإن روسو لا ينأى عن مهاجمة العادات في التربية فيقول: ” إن العادة الوحيدة التي يجب أن يسمح للطفل بتكوينها هي عدم التعود بتاتا” ص 5.

ثانيا: يقصد من كلمة (طبيعة) الطبيعة غير الإنسانية. فالتربية السيئة التي يكون مصدرها الإنسان لا بد من تعديلها عن طريق الاحتكاك بالحيوانات والنباتات وحوادث الطبيعة وقواها احتكاكاً جريئاً مخلصاً. لقد كان روسو يعشق الطبيعة، وإلى تعاليمه يعزى الفضل في الحركة الأدبية التي عشقت الطبيعة، ورغبت في تقديرها والتي سادت أوروبا. وقد كان لمفهوم روسو المبني على نظرته الساخطة على حياة الإنسان في المجتمع أثر سيء. لقد قاد إلى هجر المجتمع وتفضيل حياة العزلة ولذلك كان يقول: ” المدن مقابر البشر” ص67 .

من خلال الكتاب يضع روسو صورة إميل في المجهر ويتتبع احتياجاته الأساسية للطبيعة عبر سلسلة من التمثلات و الذهنيات الجماعية، فالضغط على حريته وقسره على قضاء وقته داخل البيت، ومحاربة ميوله الطبيعية ورغباته وعقابه قبل أن يتكون لديه مفهوم الخطأ والصواب والثواب والعقاب، هو إقبار لروحه ومكنوناته الطبيعية حسب روسو. و يقول: ” يزداد ميل الطفل إلى الأمر (مصدر أمَرَ) بازدياد ضعف جسمه، كما يزداد ميله إلى الطاعة بازدياد قوته.. إن الأهواء تجد مأواها في الجسد الضعيف” ص87.  ويقول  أيضا: ” مصدر الخبث ضعف الجسد، إن الطفل الشرير شرير لأنه ضعيف فقط، قوّه يصبح خيراً. إن من يستطيع فعل كل شيء لا يفعل ما هو شر” ص98.

أما نمو الطفل العقلي والأخلاقي في هذا العمر فلا يحتاج إلا إلى انتباه قليل، بل إن الجهد يجب أن يوجه إلى تحديد عدد الكلمات التي يعرفها: ” من المضر للطفل أن تكون الكلمات التي يملك أكثر من الأفكار، وأن يحسن القول أكثر من التفكير” ص123. وعلى هذا الأساس فمرحلة الطفولة حسب روسو “من أدق مراحل الحياة البشرية” ص143 حيث يجب أن يتحكم فيها مبدآن: أولهما: وجوب كون التربية سلبية، وثانيهما: وجوب التدريب الأخلاقي عن طريق النتائج الطبيعية. ويجب عدم القيام بأي شيء مما يكون نفس الطفل أو يقحم فيها المبادئ، خلافاً لما هو مألوف من إعطائه مختلف الأفكار. للطفولة غايتها الذاتية وهي أن يكون الأطفال أطفالاً قبل أن يصبحوا رجالاً، فلا حاجة لأن يتعلم الطفل القراءة، مع أنه قد يحاول ذلك هو نفسه. كما يقول روسو ” رب الجسد والأعضاء والحواس والقوى، ولكن دع الروح مستريحة أطول مدة ممكنة ” ص148. ومع أن الطفل لا يعرف شيئاً عن الكتب والتعلم ” فإنه يحاكم ويتنبأ ويحكم على كل ما له صلة مباشرة به “.ص156

وبعد ذلك ينتقل بنا روسو إلى مرحلة التربية من الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة: في هذا الدور من الحياة تزيد قوة الفرد على حاجاته، وبما أن النتيجة العامة للتدريب العقلي هي زيادة الحاجات دون تنمية القوى اللازمة لتلبية هذه الحاجات، فإنه يمكن الاستفادة من هذا الدور في الحصول على أكثر ما يمكن من معلومات. ولكن الأشياء ذات القيمة الحقيقية التي يجب تعلمها قليلة العدد، والفضول ـ ذلك التحمس للمعرفة الذي يصدر عن الرغبات الطبيعية لا عن الرغبة في احترام الناس ـ هو الدافع الأهم والدليل الوحيد. أما المعرفة ففائدتها عملية، ولذلك فمن الواجب أن ندع جانباً الفروع التي لا يتذوقها الإنسان تذوقاً طبيعياً ونحصر أنفسنا في الفروع التي تقودنا غرائزنا إلى تتبعها، وحتى في هذا الدور فإن (المعرفة الكتابية) يجب أن تكون قليلة.

وقد تعلم إميل في جملة ما تعلم، صناعة ” لا من أجل تعلم الصناعة فقط بل من أجل عدم احتقارها” ص164 وذلك خدمة للمزايا الاجتماعية والسيكولوجية التي يشار إليها في أدبيات التربية الحالية ،وفي آخر هذا الدور يكون إميل قد أصبح ” نشيطاً، معتدل المزاج، صبوراً حازماً، شجاعاً… معارفه قليلة، لكنه متمكن مما يعرف .ص172

لقد تكون جسد (إميل) وحواسه ودماغه حتى الآن، ولذلك فقد حان الوقت للعناية بقلبه، لقد ربى الطفل حتى الآن نفسه بنفسه. وقد كانت محبة النفس هي الدافع الذي يضبطه كما كانت تنشئة الذات والكمال الشخصي الهدف الرئيسي له. أما الآن فقد جاء الوقت لتربية الطفل تربية تمكنه من العيش مع الآخرين وتعويده العلاقات الاجتماعية، ولذلك فمحبة الآخرين هي الآن الدافع الذي يضبط توجيهه كما أن الهدف هو الكمال الأخلاقي والنماء العاطفي.

لقد بدأ روسو بالتنبيه إلى الأهمية البالغة لسن الرشد في التربية ” في هذه المرحلة تنتهي التربية عادة ولو أردنا الدقة لوجب أن تبدأ الآن ” ص187. لم يحتك (إميل) بالآخرين حتى الآن إلا بصورة غير مباشرة، ولذلك فهو لم يكن مطالباً بتكييف نفسه مع سلوك الآخرين ورغباتهم ولم يكن له من دوافع حتى الآن سوى الفضول والرغبات الشخصية. إنه لم يسمع باسم الله مطلقاً ولذلك فقد حان الوقت لتربيته أخلاقياً ودينياً.

لقد كانت صلته السابقة بالأشخاص نتيجة الاجتماع العادي فقط، أما الآن فيجب أن تبنى على وحدة العاطفة والخبرة العاطفية، ولذلك فإن طبيعة تربيته تتغير كلها. إن خير دراسة للإنسان يقول روسو هي التي تتعلق بعلاقاته، فحين لا يعرف إلا وجوده الجسدي يكون الواجب أن يدرس علاقاته بالأشياء، وفي هذا يستخدم طفولته، أما حين يبدأ بالشعور بوجوده الأخلاقي فإنه يصبح من الواجب أن ينظر في صلاته مع البشر وذلك لأن هذه الصلة هي الشاغل المشروع لحياته.

يجب تحويل محبة الذات التي تحتوي على عناصر خير وعناصر شر نحو الخير، وأساس هذا إنما هو الحياة العاطفية ” تصدر صرخات الوجدان الأولى عن حركات القلب الأولى وتنبثق المفاهيم الأولى عن الخير والشر عن عواطف الحب والبغض الأولى” ص189. وقد كان من الواجب إجراء هذا التدريب في الأدوار الأولى عن طريق الإبقاء على تواضع الطفل المولود معه وبواسطة التدريب السلبي. أما الآن فيجري هذا التدريب عن طريق الاحتكاك بالناس. والتشبه بالمعلم ودراسة التــاريخ .

يلح روسو في مناقشاته الطويلة عن التربية على أهمية العمل اليدوي والنشاط الصناعي أي على المزايا الاجتماعية التي يمكن أن يخلفها امتهان هذه الأعمال على حياة الطفل، حيث يقول: ” إنني لا أتعب من ترديد القول بأن تدريس الأطفال يجب أن يكون عن طريق العمل لا عن طريق الكلام. يجب عدم اللجوء إلى الكتاب حين يمكن الرجوع إلى الخبرة ” ص201 ، و يقول كذلك: ” لا توجد معرفة أخلاقية لا يمكن الحصول عليها عن طريق اختبار الآخرين أو الاختبار الشخصي، فإذا كانت الخبرة خطيرة أمكن الحصول عليها من التــاريخ بدلاً من اختبارها بأنفسنا. أما إذا كانت النتائج غير خطيرة فلا بأس في تعريض الشاب لها “. ص213، وهكذا فإن إميل لا يتعلم تجنب الشر فقط بل يتعلم فعل الخير. يجب أن يستثار عطفه على الفقير والمظلوم وأن يطالب بمعاونتهما. ومع أنه حازم في الدفاع عن حقوقه وسريع في حماية حقوق الآخرين فهو متحمس في الدفاع عن السلام ” إن أثر تربيته يجب أن يكون روح السلام ”  ص231.

وتربية إميل الدينية تجري على نمط مماثل، إنه لا يعرف في الخامس عشرة بأن له روحاً وقد لا يكون من المناسب إخباره بها في الثامنة عشرة. وذلك لأن تعريفه الباكر بها قد ينتج عنه خطر جهلها جهلاً تاماً. أما الأفكار الدينية التي يحصل عليها الطفل فليست إلا معارف شكلية وتقليد لغوي لا قيمة لها.

إن التربية التي حددها روسو قرينة الحرية: ولد الإنسان حرا وهو في كل مكان مكبل بالأغلال هذه العبارة أصبحت شعار قرن بأكمله- قرن التنوير-  كيف لا وأفكاره تزداد قيمة من خلال الأثر الذي تركته في الفكر الفلسفي والسياسي والتربوي المعاصر واللاحق عليه، فقد ترك روسو في الفلسفة التربوية آثارا لا تمحى مبشرا ومؤذنا للعديد من الأفكار الفلسفية والسياسية والتربوية.

نظرة موجزة عن حالة التربية قبل زمن روسو تبين أن نظرة الإنسان الأوروبي كانت مبنية في الأصل على أن الطبيعة شريرة، وأن غاية الدين والتربية في الوجود هو القضاء على تلك الطبيعة الأصلية لحياة الناس. هذه الفكرة التي سينتقدها روسو بشدة مبينا بأن مصدر تربية الطفل هو النمو الحر لطبيعة الإنسان الخاصة وقواه الذاتية وميولاته الوجدانية والعاطفية، وأن من الواجب عدم الوقوف في وجه إرادة الطفل.

لم يقصد روسو بالتربية السلبية أو الكلاسيكية في العهد البائد نفي ضرورة وجوب التربية في حياة الطفل ككل،بل رمى إلى القول بوجوب وجود تربية تختلف كل الاختلاف عن التربية التي كانت ذائعة الصيت في زمانه، وقد استقينا إحدى رسائله في هذا الصدد التي كتبها دفاعا عن كتابه إميل والتربية الذي هوجم أعنف مهاجمة ” التربية الإيجابية هي التربية التي تريد تكوين  النفس قبل الأوان والتي ينبغي فيها أن نعلم الطفل حدود واجباته“  ص245 .

أما التربية السلبية فهي تعمل على جعل أدوات المعرفة كاملة في المجتمع، إنها التربية التي تحاول تعبيد طريقة العقل بتدريب الحواس تدريبا صحيحا“ص258. على هذا فالتربية السلبية ليست كسلا إنها لا تمنح الفضيلة بل تحمي من الرذيلة ولا تفرض الحقيقة، بل تحمي من الخطأ إنها تهيئ الطفل لسلوك الطريق الذي يقود إلى الحقيقة، حين يصل العمر الذي يستطيع فيه أن يفهم الحقيقة، وإلى الخير حين تصبح له ملكة التمييز.

كثيرة إذن هي الأفكار التي يقف عليها قارئ كتاب إميل والتربية، وكثيرة كذلك هي السجالات التي ترصع متن هذا الكتاب الثوري في إبانه، لكن تيمته المحورية تبقى هي أن التربية عملية طبيعية في حياة الطفل، هي نمو من الداخل مصدرها أعمال الغرائز والميول الطبيعية وردود فعل القوى الخارجية. وأخيرا فهي تهيئة لحياة أفضل في أهدافها وصفاتها عن حياة الطفولة. فالتربية الكلاسيكية التي انتقدها روسو كانت تستهدف بالأساس كسر كل اهتمام طبيعي في الإنسان –الغرائز والميول– حيث كانت المثل الاجتماعية العليا تتفق مع هذه التصورات، وأيضا فقد كانت تعتبر الطفل راشدا مصغرا لا قيمة له ولا حقوق له حتى يستطيع محاكاة الراشد، لقد كان الطفل في ثيابه وعاداته وسلوكه ومسراته وأحزانه مصبوبا في قالب الراشدين. انقلب روسو على هذه الأفكار واعتبر أن التربية ليست عملية اصطناعية قاسية عدائية معاكسة لكل ميل طبيعي للطفل تجعلنا ننظر إليه على أنه راشد، لكنها عملية لذيذة متناسقة متزنة مفيدة لأنها تسمح للقوى الطبيعية أن تجري في مجراها.

وعلى العموم فانتقادات روسو لواقع التربية في أوروبا، وبالضبط للتربية في المجتمع الفرنسي انصبت في اتجاه تلافي نموذج التربية المصطنعة. تلك التي تكون الطفل وفق رغبات المجتمع والمثل العليا، وتعويضها بنموذج التربية الطبيعية، تلك التي تعطي أهمية مضافة لعنصر الجسد والأعضاء والحواس والقوى والروح فيما بعد. أي أن التربية يجب أن تكون في معظمها تدريبا للحواس عن طريق الاتصال المباشر بقوى الطبيعة وحوادثها، وعلى الطفل أن يقيس ويعلل ويقارن و يستنتج ويجرب ويكتشف المبادئ لوحده. فما هي يا ترى المواد التي حث روسو على تعليمها لإميل؟

أشار روسو أن على الطفل أن يدرس- التاريخ فحسب روسو فهو الوحيد الذي يدرس بالقراءة- ودراسة الفيزياء والكيمياء عن طريق الملاحظة والتجريب، والرياضيات لازمة لضرورتها في هذه الدراسة، والاقتصاد، ثم الجغرافيا في الميدان في الغابات وفي الحقول وعن طريق ملاحظة وضع الشمس والأرض ودراسة الجداول والأمطار وتغيرات المناخ. يجب أن يدرس الطفل ما يستطيع فهمه فهما صحيحا.

لقد كان روسو وحي المصلحين الذين وضعوا نظرياته موضع التطبيق والمصباح التي استهدى بهديه كل من تلاه من المربين، لقد كانت التفسيرات التي أعطاها روسو لنظرته عن الطبيعة الخطوط الكبرى لكل تصور تربوي خلال القرن التاسع عشر وكانت من نتيجة نظرياته أعمال بستالوزي وهربارت وفرويل أحسن تطور مثمر عرفه تاريخ التربية. وقد كان هذا كله نتيجة لنظرية روسو القائلة بأن التربية عملية طبيعية، تبدأ من الغرائز الطبيعية والنزعات الأصلية منتقلة إلى العمل. وتجب مراقبتها وفقا لمبادئ اشتقت من دراسة لنفسية الطفل في نموه ونفسية الراشد في عمله. كما أن تأكيد روسو بوجوب استمداد مواد الدراسة من حقائق الطبيعة وحوادثها قد قوى النزعة العلمية في التربية الحديثة.


المرجع: جون جاك روسو، إميل ،أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، ترجمة نظمي لوقا، القاهرة، 1958.  صدر المؤلف باللغة الأصلية سنة 1762

 

المصدر

new-educ.com

Exit mobile version